ط§ظ„ظ‚ط§ط¦ظ…ط© ط§ظ„ط±ط¦ظٹط³ظٹط©

ط§ظ„طµظپط­ط§طھ

الفيلق المصري : لماذا كونت بريطانيا الفيلق من فلاحين الصعيد ؟

عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، وجدت بريطانيا نفسها في حاجة ماسة إلى الأيدي العاملة من مستعمراتها لدعم مجهودها الحربي في جبهات القتال المختلفة. وبما أن مصر كانت خاضعة للاحتلال البريطاني منذ عام 1882، فقد قامت السلطات البريطانية بتكوين ما عُرف باسم "الفيلق المصري" (Egyptian Labour Corps)، وهو تشكيل ضخم من الفلاحين المصريين من صعيد مصر الذين جندوا للعمل في حفر الخنادق ومد السكك الحديدية وبناء الطرق ونقل الإمدادات في جبهات الحرب بين عامي 1914 و1918.

إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو : لماذا كونت بريطانيا الفيلق المصري أساسًا من فلاحين الصعيد ؟

كان الصعيد في مطلع القرن العشرين أكثر مناطق مصر فقرًا وتهميشًا، إذ عانى سكانه من الفقر وضعف التعليم وندرة فرص العمل. هذه الأوضاع جعلت أبناء الصعيد فئة يسهل استغلالها في نظر الإدارة البريطانية، فهم فلاحون معتادون على العمل الشاق وأقل ارتباطًا بالحركات الوطنية التي كانت تتركز في المدن الكبرى والوجه البحري. كما أن قبضة السلطة البريطانية في الصعيد كانت شديدة الإحكام، إذ بسط الاحتلال نفوذه مباشرةً على القرى والنجوع، مستخدمًا شبكة من العُمد والمشايخ المحليين كأدوات لتنفيذ إرادته. كانت الكلمة العليا للبريطانيين، فهم من يوجهون ويأمرون، بينما يكتفي العمد والمشايخ بدور الوسيط المنفذ. وبذلك أصبحت عمليات التجنيد تدار بقوة السلطة الاستعمارية ذاتها، التي لم تتردد في اللجوء إلى العنف والإكراه لضمان الطاعة والانصياع.

وكانت عملية التجنيد تتم في كثير من الأحيان قسراً إذ كانت القوات البريطانية ومعاونوها من الإدارة المحلية يأخذون الفلاحين من قراهم في الصعيد عنوة، ثم ينقلون إلى مراكز احتجاز محاطة بالأسلاك الشائكة حتى لا يتمكنوا من الفرار ثم يرحلون بعد ذلك إلى مراكز أكبر أُعدت لهم في شمال مصر، حيث يتم تدريبهم أو تجهيزهم قبل أن يُنقلوا إلى جبهات الحرب.


وخلال هذه العملية، تم شحن آلاف من عمال الفيلق المصري في السفن كما تشحن البضائع، في رحلات طويلة عبر البحر المتوسط نحو مواقع القتال في أوروبا. وكانت تلك أول تجربة بحرية في حياتهم، إذ لم يغادر كثير منهم قراهم من قبل. وقد ذكرت بعض المصادر البريطانية أن "عبور البحر كان أمرًا عظيمًا عند الصعايدة"، في إشارة إلى دهشتهم من هذه الرحلة الغريبة عن عالمهم الريفي. لكن الرحلة لم تخلُ من المآسي، إذ توفي عدد من هؤلاء العمال أثناء عبور البحر بسبب الإرهاق وسوء التغذية وسوء الظروف داخل السفن.


ومع اتساع عمليات التجنيد وازدياد الاستياء الشعبي، لجأت السلطات البريطانية إلى استخدام الدعاية المنظمة لتخفيف التوتر وتحسين صورة الفيلق المصري وكان الهدف من هذا الخطاب الدعائي هو تهدئة الرأي العام في القرى وإضفاء طابع إنساني زائف على ما كان في الواقع نظامًا قسريًا صارمًا.

وفي الوقت نفسه، أُصدرت تعليمات للموظفين المحليين بضرورة استخدام سلطتهم المعنوية لإقناع الفلاحين بالانضمام للفيلق وتحدثت صحيفة الأهرام عن الطريقة التي تم أستخدمها للأنضمام للفيلق المصري ففي عام 1915 عُقدت اجتماعات دعائية في المراكز، مثل الاجتماع الذي عُقد في بني مزار بمحافظة المنيا، حيث خاطب المأمور عمد المركز قائلاً:
"تعلمون حضراتكم أن كل واحد منكم في بلدته حاكم مسئول عن نتيجة عمله، فإذا سار في الطريق المستقيم انتظمت أحوال بلده واستتب الأمن فيه، مثلكم كمثل الأب مع أولاده فإذا كان متحليا بحلى الكمال والاداب شب أولاده على خصاله بخلاف ما إذا كان مقترفا للدنايا فإن أولاده تسير على منهاجه وتسير على منواله فتسوء عقباهم".


وقد واصلت الصحف نشر تقارير دعائية تظهر العمال في حالة رضا وسعادة، مثل التقرير الذي نشرته صحيفة المقطم في أبريل 1917 عن مجموعة من العمال من مديرية جرجا الذين يخدمون في فرنسا، جاء فيه أنهم بخير وسلام، ويعملون بقوة ونشاط وسرور، وأنهم يشعرون بحسن المعاملة من رؤسائهم وكان الهدف الواضح هو طمأنة الأهالي وتشجيع مزيد من القبول الاجتماعي للتجنيد.


وفي أواخر عام 1917، عندما اشتدت الحرب وازدادت حاجة بريطانيا إلى الأيدي العاملة، حاولت توسيع نطاق التجنيد ليشمل مناطق الوجه البحري بعد أن استُنزفت قرى الصعيد في حملات التجنيد السابقة. غير أن هذه المحاولة قوبلت بمقاومة شديدة من الفلاحين في الدلتا، الذين رفضوا علنًا الالتحاق بالفيلق المصري، واندلعت في القرى احتجاجات ومواجهات مع أعوان السلطة. وأمام هذه المقاومة القوية في الوجه البحري، تراجعت بريطانيا سريعًا عن الفكرة، وقررت التركيز مجددًا على الصعيد، حيث كانت السيطرة الإدارية أكثر فاعلية والمجتمع أقل قدرة على المقاومة المنظمة.

وقد عكس العديد من الضباط البريطانيين في مذكراتهم وتقاريرهم نظرة استعلائية وعنصرية تجاه عمال الفيلق المصري، إذ وصفوهم بالزنوج والعبيد، وهو ما يكشف عن الذهنية الاستعمارية التي تعاملت مع المصريين باعتبارهم أدوات لخدمة المجهود الحربي البريطاني، لا كحلفاء أو شركاء. كانت تلك النظرة جزءًا من عقلية استعمارية واسعة رأت في أبناء المستعمرات قوة عاملة رخيصة يمكن استخدامها بلا اعتبار لإنسانيتهم أو كرامتهم.


أثارت مشاهد التجنيد القسري للفلاحين في الصعيد صدمة وغضب السياسيين والمفكرين المصريين، إذ رأوا رجال الفيلق المصري يساقون مكبلين بالسلاسل والحبال كالأنعام نحو معسكرات التجنيد، في إهانة قاسية لكرامتهم الإنسانية وقد وصف سعد زغلول وعبد الرحمن الرافعي تلك المناظر التي كانت أبرز الأسباب التي أججت السخط الشعبي ضد الإنجليز.


كانت نتائج هذه السياسة مأساوية، إذ جرى تجنيد مئات الآلاف من الفلاحين قسرًا، وتعرض كثير منهم لسوء المعاملة وسوء التغذية في معسكرات التجنيد والنقل إلى الجبهات ومات الآلاف منهم بالأمراض أو أثناء العمل، وعاد الناجون محطمين جسديًا ونفسيًا إلى قراهم وقد ساهمت هذه المأساة في تأجيج مشاعر الغضب ضد الاحتلال البريطاني، وكانت من الأسباب المباشرة التي مهدت لاندلاع ثورة 1919.

وهكذا لم يكن تكوين الفيلق المصري من فلاحين الصعيد صدفة، بل كان نتيجة مزيج من العوامل الاقتصادية والسياسية والإدارية التي استغلتها بريطانيا لتحقيق مصالحها الحربية. فقد واجهت مقاومة شديدة في الوجه البحري، بينما مكنها نفوذها الأقوى في الصعيد من تنفيذ سياستها بالقوة والإكراه. وتحول الفيلق المصري في النهاية إلى رمز لمعاناة المصريين تحت الاحتلال، وإلى شاهد على كيفية استغلال الفقر والسلطة في خدمة الحروب التي لم تكن حروبهم.