الحقيقة ليست دائما هي الواقع وليست دائما هي ما حدث فعلا، الحقيقة هي ما تستطيع أنت أن توصله للناس حتى ولو كان ذلك بروباجندا ودعاية كاذبة، ومن ثم صياغة الرأي العام عبر ما يسمى سلوك القطيع أي أن الكذبة لو تكررت كثيرا ستكون حقيقة في عقول الناس ووقتها هذه الكذبة هي من ستشكل الرأي العام وسيسير الناس وراءها كالقطيع.
البروباجندا ليست مجرد نشر كذبة واضحة، بل هي فن انتقاء الحقيقة، تظهر جانبا من القصة وتخفي الجوانب الأخرى، تركز على حدث صغير وتجعل منه كبيرا، وتتجاهل ما قد يغير الصورة تماما، هي لا تقول كل شيء، بل تقول ما يخدم الفكرة التي تريد ترسيخها فقط.
وفي بعض الأحيان، لا تكتفي البروباجندا بالانتقاء، بل تخلق أحداثا لم تحدث أصلا، تصنع صورا، أو قصصا، أو شهادات تبنى بعناية لتبدو حقيقية، تزرعها في عقول الناس، وتغذيها بالتكرار حتى تصبح جزءا من وعيهم الجمعي، وهكذا يتحول الوهم إلى "واقع" ويصعب بعد ذلك التفريق بين الصدق والزيف.
البروباجندا لا تعتمد على الكذب وحده، بل على الإقناع بالمشاعر فهي لا تطلب منك أن تفكر، بل أن تشعر، تغريك بالصورة المؤثرة، بالموسيقى، بالعبارة التي تلامس خوفك أو أملك، فتتفاعل معها قبل أن تسأل إن كانت صحيحة أم لا وبذلك، تسلبك قدرتك على الحكم، وتمنحك انطباعا مزيفا بأنك تفهم ما يجري.
ومع التكرار والتعزيز المستمر، يبدأ العقل في تقبل الرواية المزيفة باعتبارها حقيقة والأحداث المختلقة أو المعلومات المنقوصة تكون نمطا ذهنيا، يجعل الناس يفسرون كل شيء من حولهم وفق هذا النمط، حتى لو لم يكن له علاقة بالواقع وهنا يظهر سحر البروباجندا فهي لا تغير فقط ما يعتقده الناس، بل تعيد تشكيل إدراكهم للعالم كله، بحيث تصبح الطريقة التي يفكرون بها نفسها متأثرة بالخطاب المزيف.
وهنا نصل لمشكلة أكبر وهي لماذا يصدق الناس أي شيء مكتوب أو منشور حتى لو كان على مواقع مشهورة أو في الصحافة أو على التلفزيون لذلك يجب أن يفهم الناس أن من يكتب المقالات أو الأخبار على الإنترنت أو في الصحافة أو على التلفزيون هو شخص زيه زينا، وله ميوله وأفكاره الخاصة التي أحيانا تتحكم في ما يكتبه فقد يظهر الكاتب أشياء ويخفي أخرى، أو يضيف معلومات من عنده، وكل ذلك قادر على تغيير الحقيقة تماما، حتى لو بدت القصة موثوقة للوهلة الأولى وهذا يعني أن مجرد قراءة شيء على مصدر مشهور لا يضمن صحة ما تقرأه، لأن الحقيقة يمكن أن تُصنع أو تُلون بحسب ما يريد الكاتب.
إن أخطر ما تفعله البروباجندا هو أنها لا تغير الحقائق فقط، بل تغير طريقة رؤيتنا للحقائق فهي لا تزور العالم من حولنا، بل تزور العالم بداخلنا وتجعلنا نرى الأشياء كما تريد هي، لا كما هي فعلا وكلما تمزج بين الحقيقة والاختلاق، تصبح السيطرة على الوعي أكثر قوة وسهولة.
وفي النهاية، لا يحتاج مروجو البروباجندا إلى إقناع الجميع، بل يكفيهم أن يشككوا في وضوح الصورة، وأن يزرعوا الضباب بدل الحقيقة فعندما تضيع الثقة في الواقع، يصبح من السهل توجيه الناس إلى أي رواية تقدم لهم.